JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

قصة من قصر المهاجرين إلى تاكسي بيروت: اعترافات سائق أسماء الأسد.

 من قصر المهاجرين إلى تاكسي بيروت: اعترافات سائق أسماء الأسد. 

بشار الاسد


الساعة الثانية عشرة ظهراً، أخرج من صالون التجميل في حيّ البوشرية البيروتي. أراقب المارة والباعة وأتأمل المكان الذي يبدو، بالرغم من صخب الحياة فيه، غريباً عن بيروت وأناقتها. يذكّرني الحيّ بعشوائيات دمشق؛ تلك التي ما زالت رائحتها تسكن الذاكرة كغبارٍ لا يُمحى.


يقطع شرودي توقّفي عند الرصيف باحثاً عن سيارة أجرة تقلّني إلى أنطلياس. إنها عادةٌ لازمتني منذ قدومي إلى بيروت قبل سبع سنوات: لم أعتد يوماً طلب سيارة عبر تطبيق، ولا رفع الهاتف لاستدعاء سائق. أحبّ فكرة الانتظار، كأنني أُصرّ على اختبار المصادفة.


أتخيّل نفسي في دمشق، أقف على الرصيف نفسه، تمرّ من أمامي سيارة تاكسي صفراء، وأرفع يدي في حركة مألوفة. لكن في بيروت، الانتظار أطول، والوجوه أكثر استعجالاً. بعد نصف ساعة من الوقوف، أظفر بسيارة تحمل لوحة حمراء. أصعدها هرباً من الذاكرة لا أكثر.


يسألني السائق: "إلى أين"؟


أصمت، أستمع إلى نبرته وأعرفها جيداً. تلك اللكنة التي لا تخطئها الأذن. أسأله، وقد تسلّل الفضول إلى صوتي: "من اللاذقية، صحيح"؟


يسود صمتٌ قصير، فيه شيء من الارتباك لا أفهم سببه. أقول له إنني من قرى اللاذقية. عندها يلين صوته ويبتسم عبر المرآة: "قريتي مجاورة لقريتكم... اسمي الباشا".


يخبرني، في الوقت الذي تنزلق فيه السيارة بين شوارع المتن، عن غربته التي تشبه غربتي، عن حنينٍ يتخفّى وراء العمل، وعن الطرق التي لا تفضي إلى بيت. أبتسم وأنا أفكر أننا، في هذه المدينة، غريبان من الساحل نفسه، نحمل البحر في لهجتنا، ونبحث عن ظلٍّ يشبه الوطن.


صندوق الأسرار


بعد أمتار قليلة من بدء الحديث وكسب الثقة، كشف "الباشا" عن هويته الحقيقية. لم يكن مجرد سائق تاكسي عادي كما بدا في البداية؛ بل حركياً سابقاً لضابط يحمل الاسم الرمزي "م. د"، وكان يوماً ما سائقاً خاصاً لأسماء الأسد.


يروي لي أنه وجد في بيروت ملاذاً اضطرارياً بعد رحلة هروب شاقة ومرعبة في يوم السقوط المفاجئ، ليبدأ بعدها حياة جديدة خلف مقود سيارة أجرة، بحثاً عن لقمة العيش وشيء من الأمان.


حال "الباشا" لا يختلف عن حال عشرات السوريين من أمثاله. يقول إنه يعيش اليوم مع مجموعة من المتطوعين والضباط السابقين في غرفة ضيقة بإحدى ضواحي العاصمة، يتقاسمون فيها الهموم ورغيف الخبز والحنين إلى ما تبقّى من حياة.


يخبرني كيف اضطر إلى الاستدانة ليستأجر "فاناً" صغيراً، انطلق به نحو النهر المحاذي لمدينة طرابلس، حيث تنشط شبكات التهريب البشري. هناك، مقابل 300 دولار عن كل شخص، ساعد في تهريب نحو عشرين ضابطاً من رتب مختلفة، معظمهم صغار الرتبة، لكنهم كانوا يعملون في أفرع أمنية حساسة داخل سوريا.


يقول "الباشا" إن بعض أولئك الضباط أصبحوا اليوم يعملون دهّانين أو عمّال مواقف سيارات في بيروت وضواحيها، بعد أن فقدوا كل امتيازاتهم ورتبهم ومكانتهم. بعضهم استطاع جلب أسرته، في حين لا يزال آخرون ينتظرون وصولها عبر طرق التهريب نفسها، وسط خوفٍ دائمٍ من كل شيء: من المخابرات، من السوريين الآخرين، ومن المجهول نفسه.


لا أسماء حقيقية في هذه الحكايات.


الخوف يفرض الصمت، والهوية أصبحت عبئاً، وهذا ما يجعلهم فريسة سهلة للاستغلال من قبل أصحاب العمل الذين يشغّلونهم بأجور زهيدة، مستغلين عدم امتلاكهم أوراقاً نظامية في لبنان، وامتناع مفوضية اللاجئين عن تقديم المساعدة لهم باعتبارهم لا يملكون صفة اللجوء الرسمية.


يقول "الباشا" حديثه بصوتٍ خافت: "كل يوم نخرج نبحث عن عمل، لا نعرف إن كنا سنعود ليلاً أم سنختفي مثل غيرنا. نحن فقط نريد أن نعيش".


هكذا يجد هؤلاء الفارّون من النظام أنفسهم، بعد سنوات من الخدمة في أجهزته، وجهاً لوجه مع واقعٍ قاسٍ لا يرحم: واقع الهروب من الخوف إلى خوفٍ آخر، ومن سلطةٍ إلى مجهولٍ لا نهاية له.


أسماء الأسد... الوجه الناعم للسلطة


حين ذكر اسمها، رسم "الباشا" ابتسامةً خفيفة، مائلة إلى السخرية، وقال بلهجةٍ أعرفها جيداً: "كيسة من برا..."


ثم أضاف مترجماً كلماته بنفسه: "جميلة من الخارج".


أشعل سيجارته ببطء، ونفث الدخان كمن يفرّغ شيئاً من صدره، ثم تمتم: "ما شفت منا إلا الأوامر والعصبية".


حاولت أن أستدرجه أكثر نحو التفاصيل، فسألته: "شو بتقصد"؟


ابتسم بمرارة، وقال: "كنت حابب أكون ضابط... درست بالكلية العسكرية عن قناعة، مو لأكون سائق عند المدام".


كانت كلماته كافية لتفتح صندوقاً من الأسرار والخيبات.


بالنسبة إليه، كانت أسماء الأسد تجسيداً للواجهة التي جمّلت وجه السلطة، لكنها في الوقت نفسه كانت الوجه الأكثر قسوة خلف الكواليس.


يقول "الباشا" إنه لم يرَ منها سوى التوتر الدائم والتعليمات المتناقضة. لكنها، كما سرقت حلمه بأن يكون ضابطاً حقيقياً، سرقت أيضاً حلم السوريين بدولةٍ حديثة.


فمنذ نهاية العقد الأول من الألفية، بدأت أسماء الأسد تتمدّد في مفاصل الاقتصاد السوري، بهدوءٍ محسوب، وخلف ستار "الإصلاح والتمكين".


في العام 2010، كانت أسماء في ذروة بريقها الإعلامي.


مجلة "فوغ" الأمريكية نشرت عنها مقالاً بعنوان "وردة الصحراء"، قدّمها كوجهٍ عصريٍّ وأنيقٍ للنظام، تعيش في بيتٍ فاخر وتتنقّل بين الأعمال الخيرية والتكنولوجيا والتعليم الحديث.


لكن بعد أقل من عام، ومع اندلاع الاحتجاجات في 2011، سقط القناع تدريجياً.


يقول "الباشا": "كانت حريصة على تعبئة خزينتها الخاصة... ما كان يمرّ قرار اقتصادي إلا بإذنها".


وفق روايته، كانت أسماء الأسد وراء إقصاء رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد، عن المشهد الاقتصادي، لتستولي على إمبراطورية المال والاتصالات، وتعيد تشكيل شبكة المصالح لمصلحة عائلتها المباشرة.


فرضت الغرامات على التجار، واحتكرت قطاعات كاملة من السوق، بينها تجارة المشروبات الكحولية التي سلّمتها ــ كما يقول ــ إلى شخصية نافذة تُعرف باسم "أبو علي خضر".


سألته: إلى أين كنت تقلّها عادة"؟


فأجاب بعد صمتٍ قصير: "كانت تروح كتير على حمص... دايماً بتطلب مني نزّلها بنقطة معينة، ومن هناك بتسوق السيارة بنفسها، بسرعة جنونية. كمان كانت تروح على قرى الأسد، بس كانت تحيط حالها بالغموض... دايماً في نقطة بتطلب تنزل فيها لحالها، ما بعرف ليش".


كانت طريقنا نحو أنطلياس تقترب من نهايتها، حين التفت إليّ وقال بصوتٍ خافت: "إذا بتقدر تساعدنا نلاقي شغل... نحنا منسمي حالنا فلول النظام. ما عاد إلنا مطرح، لا هون ولا هنيك".


أومأت برأسي، لا أجد ما أقوله. نزلت من السيارة، وأنا أردد في داخلي وعدًا لنفسي: 


أنني لن أستقلّ سيارة من الشارع مجدداً، لا خوفاً من الخطر؛ بل من الذاكرة نفسها. فالذكريات، في حياة السوريين، لم تعد ترفاً... بل صارت من المحرمات.



-بثينة عوض

...منقول...

#هاشتاق 

#قصص _ اسماء الاسد _ قصة من قصر المهاجرين _سائق أسماء الأسد 

#اسماء الاسد

#قصة_من_قصر_المهاجرين

#سائق_أسماء_الأسد 

الاسمبريد إلكترونيرسالة